بقلم المهندس/ طارق بدراوى
يقع قصر الأميرة سميحة حسين كامل في أحضان نيل مصر وبالتحديد في جزيرة الزمالك أرقى أحياء القاهرة وأكبر جزر نهر النيل وعنوانه 15 شارع محمد مظهر وهو قصر فخم محاط بسور حديدى بواباته مزخرفة بنقوش فريدة ويعلوه برج شامخ يشبه أبراج الحصون والقلاع الحربية القديمة حيث تتعانق طرزالعمارة الإسلامية المختلفة المملوكية والفاطمية والمغربية والأندلسية والعثمانية في مشهد فني شديد التميز والجمال وقد انشأ هذا القصر المليونير اليهودي القطاوى باشا ثم إشترته منه الأميرة سميحة كامل في أوائل القرن العشرين الماضي وهي إبنة السلطان حسين كامل الذي حكم مصر في الفترة من عام 1914م حتي عام 1917م والتي عرف عنها حبها للفنون فكثيرا ما كانت تقيم الحفلات الغنائية لأشهر المطربين مثل محمد عبد الوهاب في قصرها بالإضافة إلى الصالونات الأدبية لأشهر أدباء وشعراء ذلك العصر كما أنها تعلمت النحت والرسم والتصوير على أيدي أشهر الفنانين الإيطاليين لذلك فقد قامت بعمل تعديلات وإضافات علي القصر الذى إشترته حتي أصبح قصرها جامعا لعناصر الفنون المختلفة خاصة الإسلامية منها في تناغم وتناسق معمارى فريد ونادر وقد ظلت الأميرة سميحة حسين كامل تشغل القصر هي وزوجها الفنان وحيد يسري ولقد شاء القدر ألا ينجبا أطفالا ومن ثم عاشت وحيدة بهذا القصر الشاسع حتى بعد قيام ثورة عام 1952م ورفضت الأميرة أن تغادر القاهرة كباقى أفراد العائلة بل ظلت تحيا فى كنف قصرها رغم قسوة الأيام عليها فى نهاية حياتها إلى أن توفيت عام 1984م .
وكانت الأميرة سميحة حسين كامل قد أوصت بأن يستخدم القصر بعد وفاتها للأغراض الثقافية والفنية وأن يستغل فيما يخدم الثقافة والعلم والفن في مصر حيث أنها كانت من مثقفي وفناني ذلك عصرها وكانت تعشق الثقافة والفن وتكتب الشعر باللغات العربية والفرنسية والتركية وبالفعل تم تنفيذ وصيتها وتحول القصر الآن إلى مكتبة القاهرة الكبرى التي إفتتحت في عام 1995م كواحدة من أكبر المكتبات العامة في مصر بعدما كاد أن يتحول القصر الى قسم للشرطة يتبع وزارة الداخلية حينما تبني الصحفي والكاتب المعروف الأستاذ كامل زهيرى فكرة تحويل هذا القصر إلي مكتبة عامة تخدم القاهرة وضواحيها وأن يطلق عليها إسم مكتبة القاهرة الكبرى وبالفعل قام بعرض تلك الفكرة علي المسؤولين بوزارة الثقافة ونالت هذه الفكرة الموافقة وبالفعل تم تحقيقها فى عام 1995م وتم إفتتاح مكتبة القاهرة الكبري لرواد الثقافة والعلم والفن من مختلف أنحاء مصر والعالم ومنذ ذلك الوقت أصبحت مكتبة القاهرة الكبرى أكبر مكتبة عامة فى القاهرة بعد دار الكتب ومن أبرز مراكز الإشعاع الثقافى والحضارى التى أنشاتها وزارة الثقافة المصرية وبعد مرور أكثر من 15 عاما على إفتتاحها وفي عام 2010م أصبحت المكتبة فى حاجة ماسة الى إعادة تطويرها بما يناسب إحتياجات مجتمع المستفيدين ولمواكبة التطورات السريعة والمتلاحقة فى تكنولوجيا المعلومات ولقد أولت وزارة الثقافة عناية خاصة بتوفير كافة النفقات لإعادة ترميم وتطوير المكتبة وبالفعل تم في نهاية عام 2011م البدء في تنفيذ مشروع لترميم المكتبة يتضمن تنظيف أعمدتها ومعالجة الشروخ التى ظهرت بها وتقويتها وعزلها بأحدث الأساليب الحديثة المتبعة في هذا المجال والحفاظ عليها من العوامل الجوية وإستغرقت هذه العملية حوالي سنتين وتم إعادة إفتتاح المكتبة مرة أخرى في أواخر شهر نوفمبر عام 2013م فى عهد السيد الأستاذ الدكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة الأسبق لتعود المكتبة كسابق عهدها منارة للإبدع الثقافى والفنى وملتقى للمثقفيين والمبدعين من مصر ومختلف أنحاء العالم العربى .
وقد إنعكس ولع الأميرة بالفن على ملامح قصرها فإنفرد عن باقي قصور القاهرة التاريخية بتصميمه المعماري الرائع والمتميز حيث بني على الطراز الإسلامي الحديث المقتبس من المدارس الإسلامية المملوكية وشاعت فيه أيضا الروح الأندلسية والمغربية كما بدت في زخرفة مبانيه روح الطراز العثماني وفنون عصر النهضة الأوروبي ونماذج لطرز العمارة الرومانية والإغريقية وبذلك أصبح القصر مدرسة فنية جامعة لعناصر الفنون المختلفة وللقصر أربع واجهات ولعل أهم ما يلفت النظر اليها ذلك البرج الدائري الذي يرتفع أعلى الواجهات ويقع بالركن الجنوبي للقصر ويحتوي على مجموعة من النوافذ تغطي محيطه الخارجي هذه النوافذ تعلوها عقود مدببة ومزخرفة بزخارف هندسية وتعد هذه الواجهات نموذجا تطبيقيا لدارسي العمارة والفنون الإسلامية وذلك لما تحويه من عناصر معمارية وفنية إسلامية الطراز بحيث نجد مجموعة من النوافذ التي تنتهي بعقود مدببة محمولة على أعمدة مدمجة في الحوائط إلى جانب شرفات بدرابزين على هيئة مجموعة من الأعمدة ذات العقود وهي بذلك تماثل أشكال البوائك داخل المدارس والمساجد الإسلامية بينما تنتهي واجهات القصر الخلفية من أعلى بعنصر معماري إنتشر في العمائر المملوكية وهو عنصر الشرفات التي على هيئة ورقة نباتية ثلاثية أما من حيث الزخرفة فقد زخرفت جميع جدران الواجهات الخارجية بنوع من الزخارف الإسلامية ذات الأصول الفارسية والتي إنتشرت في مصر خلال العصرين المملوكي والعثماني ونجدها بكثرة على المشغولات المعدنية المنتشرة في آثار هذين العصرين كشبابيك الأسبلة وهذه الزخرفة تبدأ بصف من الأعمدة الرشيقة الصغيرة تحمل فوقها عقود ذات فصوص يعلو بعضها البعض بشكل متكرر وتكون هذه العقود فيما بينها ما يسمى في الفن الإسلامي بأشكال النجاريات وهي أشكال بيضاوية مفصصة إستخدمها الفنان المسلم في زخرفة جلود المصاحف والكتب الإيرانية والمملوكية وعلى القباب في العصر العثماني ونجدها في قصر الأميرة سميحة حسين كامل وقد نفذت من الجص كما نفذت زخرفة أخرى من الجص أسفل النوافذ على هيئة أشكال دائرية من خمس دوائر أكبرها أوسطها وهذا النوع من الزخرفة طالماإنتشر كثيرا في العمائر العثمانية .
ويتكون القصر من ثلاثة طوابق وبدروم تحت الأرض يحيط به سور حديدى كماذكرنا في السطور السابقة بديع الشكل زخرفت بوابته الرئيسية بثلاثة عقود مفصصة بإطار مدبب ذات طابع أندلسي يعلوها عمودان من الحديد ينتهيان بمصابيح حديدية كانت تستخدم لإضاءة البوابة ليلا وتؤدى البوابة الرئيسية إلي سلم رخام يتم من خلاله الصعود إلى مدخل القصر الذى توجد به صالة هي بهو القصر ويوجد بها بوائك ثلاث تكون ثلاثة أضلاع لمربع وهي تذكرنا ببوائك مسجد قرطبة في الأندلس وهي بوائك أندلسية الطراز عبارة عن أعمدة من الرخام الفخم الوردي المنتهية بتيجان مقرنصة تعلوها عقود مفصصة بإطار مدبب وقد زخرفت بواطن العقود وتيجان الأعمدة بزخارف نباتية مطلية بماء الذهب أما حوائط البهو فهي غنية بزخارفها الجصية ذات الطراز الأندلسي وهي زخرفة شهيرة عرفت بزخرفة الكف الأندلسية جاءت رمزا لمقولة أن المسلم يده في يد أخيه وهي زخرفة هندسية تجريدية على هيئة المعين وقد كست هذه الزخرفة جميع جدران البهو وحول هذه الزخارف توجد أشكال معدنية مذهبة على الحوائط وهي على شكل رؤوس المسامير التي كانت توضع على أبواب المدارس المملوكية المصفحة لتثبيت الشرائح المعدنية أما سقف البهو فقد قسم إلى مناطق مربعة ومستطيلة ملئت جميعها بزخارف هندسية ونباتية جميلة ومذهبة ذات طابع إسلامي ويفتح البهو على مجموعة من الحجرات التي كانت معدة للإستقبال يتقدمها بالجانب الأيمن حجرة المصلى وقد صممت وكأنها أحد المساجد المملوكية حيث فرشت أرضها بالرخام الأبلق الأسود والأبيض ووضع بأحد أركانها محراب له عمودان من الرخام الأبلق الفاخر وذلك لتحديد إتجاه القبلة أما حوائط الغرفة فمكسوة بالرخام الأبلق والمشهر الأصفر والبني أما السقف فقد نفذ وكأنك داخل أحد المساجد الجركسية فهو عبارة عن براطيم خشبية أى عروق خشب مزخرفة بأشكال نجمية ونباتية ملونة باللون الأحمر والأصفر والأبيض والأصفر ويرتكز هذا السقف على إفريز خشبي عليه نقوش كتابية كوفية بصيغة البركة الكاملة والنعمة الشاملة كما توجد حجرة أخرى من حجرات الطابق الأول وهي حجرة الإستقبال وأهم ما يميزها ذلك السقف الفريد الذي مازال يحتفظ بألوانه الأصلية ذات الطراز العثماني والمزخرف بمجموعة من الورود والزهور والأوراق النباتية العثمانية كما تنفرد أبواب هذه الحجرة عن باقي أبواب القصر بألوانها الصافية ومايوجد بها من نحت بارز على هيئة مجموعة من الورود والأوراق النباتية .
ويعتبر صالون كبار الزوار هو تحفة القصر وهو يوجد بجوار حجرة الإستقبال ولعل ما يستدعي النظر في هذا الصالون هو طراز عمارتها المتأثر بالعمارة والفن الروماني، فنجد بها عمودين يتميزان بالضخامة يعلوهما تيجان أيونية أما نوافذها فهي معقودة بعقود نصف دائرية والحوائط عبارة عن بانوهات كبيرة بسيطة مزخرفة بأوراق نباتية وزهور صغيرة وبالجانب الجنوبي من البهو يوجد سلم ضخم بدرابزين مصنوع من الرخام الفاخر باللونين الأبيض والوردي وعند صعودك درجاته ستجد أمامك ثلاث نوافذ كبيرة تنتهي بعقود مدببة محمولة على أعمدة كبيرة ضخمة ذات طراز إسلامي وهذه العقود من أعلى تحمل قبة كبيرة أنيقة تغطي بئر السلم وقد زخرفت القبة من الداخل بزخارف إسلامية وهي أشكال نجمية وهندسية وأرابيسك وخطوط متقاطعة تكون فيما بينها أشكال مستطيلات ومربعات بما يسمى في الفن الإسلامي زخرفة الجفت اللاعب وهذا السلم الرخامي يتفرع إلى طرفين بشكل دائري ثم يلتقيان في بسطة ومنها إلى صالة بالطابق الثاني مستطيلة الشكل بها أربعة أعمدة كبيرة بتيجان عبارة عن كورنيش من أوراق نبات الأكانتس وهي ذات طراز إغريقي وتفتح هذه الصالة على سبع حجرات منها حجرة تأخذ الشكل الدائري بأحد أركانها دعائم حجرية مستطيلة تعلوها عقود مدببة مكونة من بوائك تشبه بوائك جامع الحاكم بأمر الله الفاطمي بالقاهرة أما سقف هذه الحجرة فيأخذ شكلا بيضاويا محلى بزخارف نباتية جصية داخل دوائر ومزهريات وورود وأوراق نبات الأكانتس وكلها من الجص الأبيض وأسفل هذا السقف وأعلى حوائط الحجرة يوجد شريط عريض مزخرف بمجموعة كبيرة من النحت البارز لتماثيل آدمية لسيدات في أوضاع مختلفة وهي من الجص وترمز لآلهة الأساطير الإغريقية مثل دافني وأوروبا وفينوس وهي تخرج من المحارة وغيرها أما أرضيات الحجرات السبع فهي من الخشب الباركيه والأبواب جميعها من الخشب المزخرف بالطراز العثماني المسمى بالمعقلي .
والطابق الثالث نصل إليه عن طريق سلم جانبي يؤدى الى عدة قاعات ولكن أميزها القاعة الدائرية وهي برج القصر والتي كان يشغلها مرسم الأميرة سميحة حسين كامل وبها نوافذ من الجص المعشق بالزجاج الملون وتشابه تلك النوافذ التي شاعت في مساجد وعمائر العصر العثماني بالقاهرة وهذه القاعة الدائرية تعلو بئر السلم الرخامي للقصر وتبدو من بعيد كأحد أبراج القلاع الحربية التي تميزت بها العمارة الحربية في العصور الوسطى خاصة العمارة الحربية المغربية والاندليسية وهو ما يضفى على هذا القصر طابعا أسطوريا خلابا يجعل عبقه لا يغادرك بسهولة ويجعلك دائما تتوق لزيارته مرات ومرات وأخيرا بخصوص البدروم فكان مخصصا لإقامة الخدم وبه مطبخ كبير ومغسلة وعدد من المخازن وجدير بالذكر أن الأميرة سميحة حسين كامل كانت مولعة بالرسم والفنون الجميلة ولذلك فقد حرصت علي أن تجعل من قصرها تحفة فنية نادرة حيث أشرفت بنفسها علي تنفيذ جميع الزخارف الهندسية والرسومات النباتية علي واجهات القصر وعلي جدرانه وأسقفه الداخلية هذا وقد تم تسجيل هذا القصر في عداد الآثار الإسلامية بالقرار رقم 185 لسنة 2001م .